- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
السلطة الفلسطينية يشوبها عيوب لكنها إرث مهم لعملية أوسلو
Part of a series: Oslo at 30
or see Part 1: Oslo at 30: Personal Perspectives from Washington Institute Scholars A Compendium
سيتكبد الفلسطينيون ثمنًا باهظًا إذا انهار صرح عملية أوسلو، ولن يتكبدوه كأفرادٍ فحسب، بل أيضًا كشعبٍ يسعى إلى تقرير مصيره.
يمكن تَفَهُّم خيبة أمل الفلسطينيين من عملية أوسلو. ففي النهاية، فشلت العملية التي تمحورت جاذبيتها لدى الشعب الفلسطيني حول الوعد بتحقيق الاستقلال وإنهاء الاحتلال، وأفضت بدلًا من ذلك إلى صراع مستمر مع إسرائيل وانقسام الكيان السياسي الفلسطيني إلى حكومتين لا يجمعهما سوى الفساد وسوء الإدارة والسياسات والممارسات الاستبدادية. من جانبهم، حصل الإسرائيليون على وعود بالأمن والقبول، وبدلاً من ذلك شعروا بأنهم واجهوا إرهاباً متواصلاً وإنكار. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل العيوب التي تشوبها، فإن عملية أوسلو خدمت ولا تزال تخدم المصالح الفلسطينية الرئيسية. ومن ثم، فإن انهيار إطار الاتفاق يمكن أن يوجه ضربة قاسمة للتطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني.
طريق العودة إلى الدور الفاعل
عندما بدأ المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون الاجتماع بالقرب من العاصمة النرويجية في عام 1993، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية عند أدنى مستوياتها. وفي أعقاب القرار غير الحكيم الذي اتخذته "منظمة التحرير الفلسطينية" بدعم احتلال صدّام حسين للكويت، عُزلت المنظمة إقليميًا وحُرمت من الدعم المالي والدبلوماسي العربي.
وظهر هذا التهميش جليًا في "مؤتمر مدريد للسلام" عام 1991 ومحادثات واشنطن التي تلته. ومنذ تولى ياسر عرفات قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" في عام 1969، شملت المبادئ الأساسية التي اتبعها النضال من أجل الاعتراف بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" باعتبارها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، والدفاع عنها من أي علامات قد تشير إلى تعدٍّ عربي على التمثيل الفلسطيني.
ولكن بحلول أواخر عام 1991، أصبحت "منظمة التحرير الفلسطينية" ضعيفة جدًا لدرجة أنها قبلت أن يمثل أعضاء لا ينتمون إليها المصالح الفلسطينية في إطار وفد أردني فلسطيني. وفيما حافظت قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" على ما يكفي من النفوذ لتوجيه المندوبين الفلسطينيين الذين شاركوا في هذه المحادثات ودفعهم إلى تبني مواقف غير مرنة، لم يدُم هذا النهج المعرقِل. وعكست "اتفاقيات أوسلو" هذا الاتجاه وأعادت القضية الفلسطينية إلى الساحة الدبلوماسية الإقليمية والعالمية.
لكن "اتفاقيات أوسلو" كانت أكثر من مجرد مناورة تكتيكية لإعادة تأهيل "منظمة التحرير الفلسطينية" دبلوماسيًا. ولطالما حظي حق الفلسطينيين في تقرير المصير بقبول دولي، إلا أنه كان لا يزال يفتقر حتى تلك المرحلة إلى الوسائل التي تتيح تحقيقه. فساعدت عملية أوسلو في تمهيد الطريق لتحقيقه. وأدى اعتراف إسرائيل بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" باعتبارها "ممثل الشعب الفلسطيني" إلى إنشاء الإطار القانوني والدبلوماسي للتسوية عن طريق التفاوض، في حين أدى إنشاء "السلطة الفلسطينية" إلى إرساء الأساس المادي والمؤسسي لمثل هذه التسوية. وعلى الرغم من أن الدولة الفلسطينية لم تُذكر في أوسلو، أنشأت الاتفاقيات منطقًا أدى في النهاية إلى قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون والرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بتبني حل الدولتين كسياسة إسرائيلية وأمريكية رسمية، ما جعل إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل مسألةً تحظى بإجماع دولي.
لحظة عابرة مع بعض النتائج الملموسة
أصبح سماع أن عملية أوسلو قد ماتت حقيقة بديهية شائعة. في الواقع، أصبح الكثير من أحكامها فانيًا، كما تتعرض اثنتان من ركائزها الأساسية، هما حل الدولتين و"السلطة الفلسطينية"، للضغط الشديد. ويصعُب جدًا اليوم إيجاد قائد عالمي واحد يعتقد أن حل الدولتين هو سهل التحقيق، وتغيب بالتالي الرغبة الدبلوماسية للاستثمار في تحقيقه. وما يثير القلق أكثر بعد هو تخلي الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني عنه تدريجيًا، ومعارضة زعماء بارزين له في المجتمعين. وعلى الأرض، يضغط كبار الوزراء في الحكومة الإسرائيلية الحالية من أجل اعتماد سياساتٍ تعرقل قابلية التطبيق المادي لأي حل مستقبلي، لا سيما من خلال توسع المستوطنات في عمق الضفة الغربية بشكلٍ غير مقيّد. وفي الوقت نفسه، يتجدد الإرهاب من جانب الفصائل الفلسطينية والأفراد الفلسطينيين، في ظل عدم قدرة "السلطة الفلسطينية" على فرض سيطرتها الأمنية في المناطق الخاضعة لسلطتها.
ويمر الجسم السياسي الفلسطيني من جهته بأزمة عميقة تتعلق بالشرعية. تُواجه مسألة التمثيل الفلسطيني تحديات لا تفرضها هذه المرة جهات فاعلة خارجية، إنما تأتي من داخل السياسة الفلسطينية وتحديدًا من حركة "حماس". وعلاوةً على ذلك، يستشري الفساد وسوء الإدارة في "السلطة الفلسطينية" التي تعمل مثل الكثير من الأنظمة الدكتاتورية المجاورة لها للحد من الحيّز السياسي، وترفض بشدة إجراء أي تجديد سياسي. وهي تنجرف نتيجة لذلك، تدريجيًا وبلا هوادة، نحو فقدان الأهمية المحلية والدبلوماسية، إذ يعتبر معظم الفلسطينيين اليوم أن السلطة الفلسطينية تشكل مسؤوليةً لا ثروةً، كما أنها لا تجذب الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية للتحاور معها.
ولكن على الرغم من كل هذه العناصر، ما زالت المكونات الهيكلية الأساسية لعملية أوسلو حية، وما زال حل الدولتين يلقى إجماعًا دبلوماسيًا دوليًا. ومع أن هذا الإجماع لا يُترجَم في الوقت الحالي إلى مبادرات دبلوماسية، فهو ما زال يحدد إطار مواقف مختلف الجهات الفاعلة الدولية وسياساتها ويوجهها، ويضع بعض القيود على السياسات التي تقوّضه وما كانت لتخضع لرقيب.
ما زالت "السلطة الفلسطينية" تشكل على الرغم من أوجه القصور كلها إطارًا للفلسطينيين ليحكموا أنفسهم ويبنوا النواة المؤسسية لإقامة أي دولة مستقبلية. وفيما يتطلع الكثيرون من الفلسطينيين إلى حكومة نظيفة وأكثر كفاءة وتتمتع بقدرة على الاستجابة، لا تُعتبَر "السلطة الفلسطينية" أسوأ فعلًا من حكومات إقليمية أخرى غير مرضية وإنما كافية لإدارة الدولة. وعلاوةً على ذلك، كما أظهرت ولاية رئيس الوزراء السابق في "السلطة الفلسطينية" سلام فياض، يمكن إصلاح مؤسسات "السلطة الفلسطينية" وتحديثها بسرعة معقولة في ظل توافر الإرادة السياسية اللازمة. أما على الصعيد الدبلوماسي، وعلى الرغم من الشكاوى الدولية المبررة، فتظل "السلطة الفلسطينية" عنوانًا للانخراط الدبلوماسي الدولي (ولو من خلال الوهم البنّاء المتمثل بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" كعنوان دبلوماسي)، ما يضمن الوجود الفلسطيني على الساحة الدولية.
أثر انهيار الاتفاق على الفلسطينيين
فيما أثبتت هيكليات أوسلو مرونتها واستمراريتها، يصعب يومًا بعد يوم استبعاد احتمال انهيارها. وإذا حصل ذلك، فسيخلّف آثارًا كارثية على آفاق حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وفى هذا السياق، تُعَد "السلطة الفلسطينية" اليوم الهيكلية السياسية الوطنية الفلسطينية الوحيدة المتبقية التي تحظى بالأهمية، كما سيؤدي على الأرجح انهيار "السلطة الفلسطينية" إلى انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية. لا تزال الهوية الفلسطينية قوية، ولكن في ظل غياب المؤسسات السياسية، ستزول القدرة على ترجمة هذه الهوية بفعالية إلى مكاسب سياسية ودبلوماسية. ومع إنشاء "السلطة الفلسطينية"، والتحويل الحتمي للموارد المالية والسياسية والبشرية إلى تأسيسها وإدارتها، أصبحت "منظمة التحرير الفلسطينية" مفيدة للأغراض الدبلوماسية. وأصبحت حركة "فتح" من جهتها، لا سيما في عهد الرئيس عباس، تشبه الكثير من الأحزاب الحاكمة المماثلة في المنطقة والعالم، إذ باتت شديدة التماثل والتداخل مع "السلطة الفلسطينية" لدرجة تجعلها غير قادرة على النجاة من انهيار هذه الأخيرة.
قد يكون من المغري التفكير أن انهيار هذه الهيكليات المحتضرة سيمهّد الطريق لظهور كيان أفضل. لكن هذا الافتراض يتعارض مع تاريخ الفلسطينيين وتجاربهم في أماكن أخرى. وتشمل الأسباب عدم ضمان قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على إعادة تشكيل نفسها بعد الانهيار. فكُتُب التاريخ مليئة بمخلفات الحركات الوطنية الفاشلة. وحتى لو ظهر كيان جديد، لن تستمر هذه العملية إلا لجيلٍ واحدٍ في أفضل الأحوال، ولن تحقق نتيجة نهائية مضمونة. أما الأمر المؤكد الوحيد، فهو أن هذه العملية ستكون دموية ومعطّلة إذا حدثت، لا سيما بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم.
قد تنجو حركة "حماس" من هذا الانهيار، وقد تستفيد منه حتى، لكنها تعاني من أوجه قصور خطيرة تقيّد بشدة قدرتها على تمثيل الشعب الفلسطيني بشكل فعّال ومقبول. فطبيعتها الأيديولوجية ستحدّ دائمًا من قدرتها على أن تكون منظمة شاملة وتمثيلية. أما على الصعيد الإقليمي، فتشوهت سمعة شعار "الإخوان المسلمين" الذي لا تزال حركة "حماس" تتمسك به، وتُعارضه أيضًا أهم الحكومات العربية بشكل استباقي. كما سيؤدي استمرارها في استخدام الإرهاب إلى نبذها على المستوى الدولي.
وعلى نحو مماثل، سيأتي انهيار هدف حل الدولتين على حساب الفلسطينيين. يبقى هذا الحل الخيار الممكن الوحيد لمنح الشعبين اليهودي والفلسطيني الحق الذي يستحقانه في تقرير المصير. أما أي بديل أخر، فسيأتي حتمًا على حساب إحدى المجموعتين الوطنيتين أو كلتيهما. ورغم الادعاءات، فإن استمرار الوضع الراهن الذى ظل لأكثر من خمسة عقود - سيعني استمرار إنكار التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. علاوة على ذلك، يفترض "حل الدولة الواحدة" الذي تم إحياؤه حديثاً أن إحدى الدولتين سوف تُخضع حق تقرير مصيرها للأخرى، أو أن كلاً منهما سيتخلى عن حقه في تقرير مصيره لصالح دولة ما بعد القومية - وهو أمر نادر الحدوث حتى في الأجزاء الأقل إثارة للجدل في العالم. وفيما قد تؤدي الوسائل السياسية والقانونية إلى تحسين حقوق الأفراد الفلسطينيين والمجتمعات الفلسطينية، لم يتعلق الصراع يومًا بالحقوق المدنية والسياسية، بل لطالما ارتبط بالتطلعات الوطنية. وأي حل مقترَح لا يراعي القومية سيكون حلًا لا تاريخيًا في أحسن الأحوال ومراوغًا في أسوئها.
تجنب الانهيار
على الرغم من كل هذه الحجج، أدت النكسات المتكررة التي تعرضت لها عملية أوسلو إلى فقدان مصداقيتها لدى الشعب الفلسطيني. ويجب تبني عدد من السياسات لتجنب المزيد من الانجراف والانهيار المحتمل الذي لن تقتصر أضراره على الفلسطينيين فحسب، بل ستطال إسرائيل والدول المجاورة أيضًا.
أولًا، لا بد من وقف السياسات التي تعيق إمكانية التوصل إلى حل الدولتين في المستقبل، سواء تلك التي تعزز بناء المستوطنات في المناطق الواقعة في أعماق "السلطة الفلسطينية" فتجعل فصلها المادي مستحيلًا في المستقبل، أو تلك التي تؤدي عن قصد أو عن غير قصد إلى انهيار "السلطة الفلسطينية" ومعه انهيار العنوان الفلسطيني للتسوية المستقبلية.
فضلًا عن عدم إلحاق الضرر، يجب وضع سياساتٍ لإعادة تأهيل فكرة التعاون بحد ذاته، لا سيما بالنسبة إلى الفلسطينيين والإسرائيليين الأصغر سنًا الذين بلغوا سن الرشد بعد عام 2000، ولم يختبروا الأمل والتعاون اللذين سادا في تسعينات القرن الماضي، بل شهدوا إخفاقات عملية أوسلو فحسب. ولا يمكن تحقيق ذلك من خلال استئناف المفاوضات التي ستفشل حتمًا نظرًا إلى حالة السياسة الفلسطينية والإسرائيلية، بل من خلال مجالات ملموسة ومجدية سياسيًا يمكن أن تُظهر بشكلٍ واضحٍ إمكانية تطبيق التعاون وقيمته. وفي هذا الصدد، يمكن أن يوفر توسيع "اتفاقيات إبراهام" في المستقبل وسيلةً لتنفيذ خطوات مماثلة.
وأخيرًا، ولنكن صادقين، فمهما كانت الرسالة مقنعة، إلا أنه من الصعب تلقيها بشكل إيجابي إذا كان مرسلها موضع شك. وفي هذه الحالة، فإن "السلطة الفلسطينية" كهيئة حاكمة و"فتح" كحركة سياسية هما المرسل، وإذا لم يتم إصلاحهما وإعادة تأهيلهما، سيكون من المستحيل إعادة تأهيل عملية أوسلو بنظر الفلسطينيين. وفي هذا السياق، يجب التعاطي مع فكرة الانتخابات الفلسطينية بحذر شديد. ففي بيئة اليوم، إن احتمال عدم احترام الخاسر للنتيجة في أي انتخابات مرتفع جدًا، سواء أكان هذا الخاسر هو "فتح" أو "حماس"، ولن تؤدي الانتخابات التي تفشل في تغيير الواقع سوى إلى تعميق حالة عدم الرضا.
على الرغم من كل الوعود التي لم تتحقق، وعلى الرغم من تعدد أوجه القصور التي اتضحت بعد فوات الأوان، شكلت عملية أوسلو إنجازًا تاريخيًا في مسعى الفلسطينيين نحو تقرير المصير. فقد أفضت لأول مرة إلى حكم الفلسطينيين لأنفسهم على أراضيهم، وطرحت حل الدولتين المستقبلي الذي حظي بالإجماع الدولي، وأقامت سبلًا دبلوماسية ومؤسسية نحو تحقيقه.
ولا يزال الكثير من هذه الإنجازات قائمًا اليوم. ولكن لا يمكن إنكار الإخفاقات أيضًا، وتطغى لدى الفلسطينيين مشاعر خيبة الأمل من عملية أوسلو. وعلى الرغم من إمكانية تَفَهّم هذه الخيبة، سيتكبد الفلسطينيون ثمنًا باهظًا إذا انهار صرح عملية أوسلو، ولن يتكبدوه كأفرادٍ فحسب، بل أيضًا كشعبٍ يسعى إلى تقرير مصيره. وقد يكون نهج "التدمير التام والبدء من جديد" مرضيًا على الصعيد العاطفي، لكن اتباع مسارٍ أكثر حكمةً ومسؤوليةً سيملي الحفاظ على إنجازات أوسلو ومعالجة أي أوجه قصور يمكن معالجتها في بيئة اليوم، إلى أن تحين اللحظة الأنسب لانتهاج مستوى عالٍ من الدبلوماسية.